آخــــــر مــا حــــــرر

ليس بالقوة وحدها نبني مجدنا بل بـ«ثقافة القوة».




لا شك أن العقلية العملية متقدمة على العقلية التنظيرية.. فالذين يمضون أوقاتهم في تحليل الظواهر والأحداث والقضايا عادة يصلون إلى حائط مسدود.. وربما يختلفون كثيراً فيما بينهم.. لأن دائرة التحليل واسعة جداً.. وفقاً لمشارب الناس ومذاهبهم وعواطفهم.. لكن دائرة الحلول أضيق بكثير من الأولى.
لو نشب حريق في مؤسسة يملكها عدة شركاء وانقسم الشركاء إلى فريقين: فريق اجتمع ليبحث في أسباب اندلاع الحريق وراح يحلل مساراته ومتجهاته، وفريق آخر استجلب أدوات الإطفاء من خراطيم مياه واسطوانات وسلالم.. وشرع في إطفاء الحريق، ثم نجحوا في ذلك، عندئذ سيستنتج الجميع أن الفريق الثاني هو الأكثر نفعاً والأرجح وعياً من الفريق الأول، مع الإقرار باحتياج أي عمل للتخطيط والتنظير لكن احتياجنا لطرح الحلول أكبر من احتياجنا لتحليل الظواهر.
وفي «الثورة السورية» غلب على النخب المعارضة الطريقة التنظيرية في التعاطي مع «الحدث الكبير» ودفعت بالبعض إلى نبش قبور التاريخ واستحضار مستحاثاته، لتفسير ظاهرة حديثة الولادة، وكان الأجدر هو البحث عن حلول وعلاجات عاجلة ووضع خطط ساخنة، حتى لا يضيع الوقت عبثاً وتبدد الجهود هدراً وتنشب الخلافات بين الفرقاء.
وفي الحديث عن الحلول لا شك أن هناك قوائم سيتم اقتراحها من قبل المهتمين بالشأن العام.. لكن المؤكد هو أن جوهر الحلول ومركزها يتلخص بكلمة واحدة هي «ثقافة القوة»!. القوة بكل أنواعها. فبعض المرضى يترددون على العيادات الصحية يشتكون من أمراض شتى، وكلما عالجوا مرضاً وقعوا في مرض آخر، وهم لا يدركون السبب الأساسي وراء كثرة زيارة الأمراض لأجسادهم، ألا وهو الضعف العام الذي أصابهم، ولو أنهم استمعوا إلى نصيحة مدرب اللياقة الرياضية والتزموا بكورسات تدريبية محددة لصارت أمراضهم من ذكريات الماضي ولطووا صفحة الشكوى التي لا تنتهي.
هذا الكلام ينطبق تماماً على واقع الثورة السورية التي عانت وتعاني ضعفاً شديداً في جوانب عديدة، ومن أعراض هذا الضعف التفكك والتفرق، وسهولة الاختراق والانزلاق، وكثرة الاستجرار وضعف القرار. وكل تلك الأعراض علاجها هو «ثقافة القوة» فكراً ووعياً وسياسة وإعداداً.
اعتاد الضعفاء أن يتعاملوا مع أي استحاق يواجهونه بالدهشة والذهول وردود الأفعال المرتجلة، وعندما يكون الاستحقاق أمراً كبيراً أو خطراً داهماً لا يصح مطلقاً مواجهته بالإمكانات الحاضرة والطاقات المتوفرة، ولا بد من عمليات تأهيل مناسبة وعمليات تطوير وتنمية تتناسب والحالة المستجدة.
لكن الذي يحدث هو أن الضعفاء لا يتجهزون للمفاجآت.. ولا يخططون للقادمات.. ولا ينظمون صفوفهم.. ولا يبرمجون أعمالهم.. فينفعلون ولا يفعلون ويتأثرون ولا يؤثرون وتذهلهم الصدمة الأولى.  
الضعفاء ينشغلون بترميم بنائهم المتصدع وتضميد جرحهم النازف وإحصاء خسائرهم.. وكل ذلك بسبب ضعفهم.. دون أن يفكروا بمعالجة أصل المشكلة وهي الضعف المستحكم بهم، وقد يؤدي الانهماك بعلاج آفة إلى إنتاج آفات أخرى حتى لو كانت الوصفة العلاجية صحيحة.
فالكيان الضعيف يستدعي مزيداً من الضعف، ويستجرّ كثيراً من العجز، وبالمقابل فإن الكيان القوي يلتقط مزيداً من القوة ويجتذب كثيراً من المَنَعَة، فالقوة هي العلاج الأفضل لكل داء وهي الحل الأمثل لكل مشكلة.
المسافة بين الضعفاء والأقوياء واسعة وتزداد اتساعاً ما دام الفريق الأول متمترساً بضعفه، والعلاقة بين الفريقين جدلية فضعف الضعفاء يمنح الأقوياء قوة مضافة وقوة الأقوياء تمنح الضعفاء مزيداً من الضعف.
الضعفاء يخسرون حتى وهم يكسبون!. فهم منشغلون بالمعارك الصغيرة في الأماكن الضيقة، نازفين ما لديهم من طاقات.. ويفرحون بكسب بعض النقاط في زاوية من ميدان الصراع، لكنهم يفقدون الكثير في مكان آخر، يفقدون ما هو أكثر أهمية وتأثيراً.
والأقوياء يكسبون حتى وهم يخسرون!. لأنهم يحرصون على كسب النقاط الحاسمة في المكان والزمان الملائمين، متجاوزين بعض الخسائر والهزائم الناعمة.
الأزمة الحقيقية لدى الضعفاء تتعلق بالرؤية الخاطئة الخادعة عندهم، فهم يرون كل النوازل واقعة عليهم، لأنهم رضوا بالإقامة في الأماكن المنخفضة وفيها يظن الضعفاء أن أي ساقطة تستهدفهم وتتقصدهم، علماً بأن كثيراً من النوازل تصيبهم لمجرد أنهم واقعون في المستوى الخفيض من أرض الصراع.
يشكو الضعفاء من انعدام الفرص وفقدان الحيل، ويتهمون الآخرين بتعمد الإضرار بهم ومنعهم من التمنفع بأية فرصة. لكن السبب وراء ذلك يكمن في التموضع في المكان الضيق، والتقوقع على برامج عتيقة وخيارات محدودة.. ولو فكر الضعفاء للحظة واحدة بالتحرر من ضيق الهوامش وقلة الخيارات لانفتحت عليهم آفاق كثيرة وفرص وفيرة.
يحسب الضعفاء أن الجميع يستهدفهم وكأنهم هدف لكل الرماة.. لكنه الوهم المستحكم في ذهنيتهم، فالخلل في تموضع الضعفاء في مرمى الآخرين المتأهبين لكل فريسة شاردة.. وحين يسلمون من أحد الرماة يصطادهم قناص آخر.. والسؤال هنا موجه للضعيف: لماذا أنت تجعل من نفسك هدفاً للخصوم.. ولماذا تقدم نفسك فرصة للمتربصين؟.. ألا ترى أن مزيداً من الضعف والوهن قد يعلم العميان الصيد؟.
خيارات الضعفاء محدودة، ما بين السيء والأسوأ، وأعقل الضعفاء من يأخذ بالخيار السيء ويتحاشى الخيار الأسوأ.. بينما تنفتح خيارات الأقوياء على الحسن والأحسن، وأحكم الأقوياء هو الذي يترك الخيار الحسن ويختار الأحسن.
♦ حين نكون أقوياء لن نحتاج إلى حمل كيس العقاقير أينما ذهبنا لأن القوي لا تخالطه الأوجاع.
♦ حين نكون أقوياء لن نحتاج إلى التنازلات المؤلمة وعند الضرورة سنلجأ إلى تنازلات منتجة.
♦ حين نكون أقوياء ستنهال علينا العروض من كل مكان وعلى قدر قوتنا سنختار العرض الأجدى.
♦ حين نكون أقوياء سيتردد الكثيرون في منازلتنا فنسقط من حساباتنا كثيرا من الصدامات التي تمتص بعضاً من قوتنا إن حدثت.
♦ حين نكون أقوياء سيغض العالم الطرف عن بعض أخطائنا فالكبير تبدو خطيئته صغيرة وربما لا يشاهدها أحد.
♦ حين نكون أقوياء سنفرض احترامنا على الآخرين وكل احترام جديد سوف يستدرج تقديراً جديداً.
♦ حين نكون أقوياء سنزداد ثقة بأنفسنا فلا نخشى الفشل ولا نهاب الصعاب ولا تحرجنا المواجهة ولا تربكنا المتغيرات.
♦ حين نكون أقوياء سيكون قرارنا ملكاً لنا غير مستورد من مكان آخر أو مفروض علينا وعندئذ لا أحد قادر على  مصادرته منا.
أما الضعفاء فهم منشغلون دوماً بالبحث عن العلاجات سواء منها «الطب العربي» أو الكيماوي أو«طب الخرافات» والغيبيات.. وهم ينحدرون من تنازل لآخر على أرض زلقة تهوي بهم إلى خسارة كل شيء.. والضعفاء مستبعدون من أية فرصة مفيدة لأن الفرص ذهبت للجهات الأقوى.. كما أن أحوال الضعفاء مغرية للكثيرين لينازلوهم بسبب أو دون سبب.. وبشكل عام فإن خطيئة الضعفاء مرصودة ويتم تكبيرها بل واختلاقها وهم دوماً يستدرجون إلى الخطأ حين لا يوجد الخطأ.. والضعفاء لا يحسب حسابهم ولا يلاحظ فرق واضح بين حضورهم أو غيابهم وعادة ما يستبعدون عندما تنعقد مجامع القرارات.. يعيش الضعفاء دوماً في حالة انعدام الوزن العائد لاهتزاز الثقة وقد يتخلون عن الصواب لظنهم أنه خطأ حين لا يرون نتائج.. غير مدركين أن ضعفهم هو سبب شح النتائج.. والضعفاء دوماً لا يملكون قرار البدء أو الإنهاء وقد ينقادون إلى المكاره وهم يرون مآلاتها دون أن يملكوا من أمرهم شيئاً.
هي الرؤية الخاطئة إذاً.. حيث يرى الضعفاء أن الجميع يتآمرون عليهم ويستهدفونهم بالمؤامرات، وتلك الرؤية تدعوهم لمزيد من العزلة والانغلاق والعقد الفكرية والنفسية.. الأمر الذي يجلب لهم مزيداً من المضرات والضربات.. فيزداد إيمانهم بـ «نظرية المؤامرة» التي يرون من خلالها كل الأشياء قاتمة معتمة، حتى المنافع والمصالح يشككون بها.. باعتبار العالم لا يمكن أن يقدم لهم أي خير أو منفعة.. فالضعفاء يحسبون معظم العالم منشغل بالتخطيط للكيد بهم.. بينما الأقوياء يعتقدون أن جزءاً كبيراً من العالم مهتم بالتمصلح بهم.
لو أدرك المثقفون أهمية القوة لخططوا لشيء واحد هو كيف نكون أقوياء؟. فنحن لا نحتاج إلى القوة بقدر حاجتنا إلى «ثقافة القوة» التي تجعلنا نرفض الضعف ونحاربه.
الكاتب والباحث: عبد الناصر الحسين.  


ليست هناك تعليقات