آخــــــر مــا حــــــرر

بين الأصولية والعصرنة


                                       

لقد شهد العالم- بعد الحرب العالمية الثانية- تحولات دراماتيكية, تمثلت ببروز أمرين مهمّين: الأول هو تلك القفزة النوعية الهائلة التي شهدتها البشرية في مجال التقدم العلمي والتطور التقاني, والثاني هو: بروز العامل الاقتصادي كمؤثر في سياسات الدول، مما أفضى لظهور ما يسمى بالنظام العالمي الجديد, حيث أصبح العالم كقرية صغيرة تمتاز بسهولة التواصل بين أجزائه, وسرعة الوصول إلى الخبر والمعلومة, وتحطمت كثير من الحواجز الإديلوجية والثقافية, وسادت قيم إنسانية عامة ومشتركة وجديدة، كالحرية والكرامة وحقوق الإنسان، ومع كل ذلك، لا يستطيع الكثير من المثقفين إخراج رؤوسهم من نظرية صدام الحضارات ونظريات المؤامرة التي سادت في عصور الانحطاط.
لقد حرص البعض على إعادة إحياء نظرية صدام الحضارات من بوابة «القضية السورية», ليستثيروا الغرائز العاطفية لدى الشعوب، ويثبتوا فكرة من نسج الخيال مفادها أن العالم كله يحارب الإسلام والمسلمين, ويهدف هؤلاء من خلال الترويج لهذه الفكرة إلى منع احتكاك الشعوب بالحضارات الأخرى، لأن الاحتكاك بالعالم الحر سيفضي إلى سقوط طواغيت الحكم واندحار طواغيت الفكر والأحزاب، كما يهدف هؤلاء إلى تبرير فشلهم- على مدى عقود من الزمن- في تحقيق أي إنجاز مفيد يحسب لهم, حيث أثبتت الوقائع أن هؤلاء الطواغيت أفلسوا من أي مشروع نهضوي أو تنموي، وأنهم لا يملكون برامج تطوير تنفع الناس, ولا يملكون حلولا لمشكلات العصر الحديث, ولا إجابات لأسئلة تزداد تراكما يوما إثر يوم وساعة بعد ساعة، لقد وجد هؤلاء أنفسهم عاجزين عن العيش في المنطقة الوسط بين «الأصولية والعصرنة» فانحازوا إلى الأصولية, ليحافظوا على مواقعهم، محاولين سحب الأجيال الجديدة إلى زوايا التاريخ، وإبعادهم عن الواقع ليظلوا مترئسين عليهم.
لقد استحكمت في هؤلاء حالة من العجز النفسي والقصور الفكري والعقد التاريخية, جعلتهم عاجزين عن إحداث نقلة نوعية للتعايش مع الجديد المستجد والمتغير لحظة بلحظة، كما استصعب هؤلاء العجزة فكرة الاعتراف بأن دفة التطور والتحديث يمسك بها اليوم الآخرون من أصحاب الديانات الأخرى، والحضارات الأخرى, وأن الوقوف بموقف المتلقي والمتعلم منهم هو مذلة ومهانة, ولذلك نجدهم يصرِّون على التموقع في الخندق الشرقي لا يبرحونه, ولا يفكرون بإخراج العقل من الصندوق ليبصروا عالما آخر, بل ويمنعون الآخرين من استراق النظر ولو من وراء الثقوب أو من فوق الجدران.
ونظرا لافتقادهم إلى برامج متقدمة فإنك تراهم لا يملكون سوى معاداة الآخرين واستعدائهم، ينتقدون أنماط عيشهم ونظم حياتهم، بحق أو بغير حق، ويحاولون بناء أمجادهم على أنقاض الآخرين، يبيعون الناس أوهاما، ليظل الناس في حالة من التأهب والشد العصبي والتوتر النفسي والتعبئة الدائمة، وفي حالة من التبعية للطواغيت المعمرة.
إن الجدل القائم اليوم هو كيف نكون قادرين على احترام ثوابت الماضي والتأقلم مع متغيرات العصر الحديث، إن ذلك ممكن لكنه صعب في المنظور القريب, فالأمة تحتاج- أولا وقبل كل شيء- إلى غربلة التراث القديم لعزل ما علق به من نفايات عصور التخلف والانحطاط, وإعادة تأهيل الفكر ليصبح قادرا على تقبل الآخر والتشارك معه بصرف النظر عن المعتقد والدين, وإيصال الفكرة بالطرق السلمية بعيداً عن العنف والإرهاب.
الكاتب والباحث السياسي: عبد الناصر الحسين.

ليست هناك تعليقات