آخــــــر مــا حــــــرر

الحق سينتصر حين تعجز القوة




                                                 
حين نمتلك قضية بعدالة القضية السورية فلا ينبغي أن يكون النصر مستحيلاً مهما تعقدت الأمور. وحين نواجه عدواً منكشف العورات سافر الإجرام فلا يصح أن نجد كل تلك الصعوبة في هزيمته. وحين لا نتمكن من إحراز النصر بسبب اختلال موازين القوة الخرافي بيننا وبين الديكتاتور فعلينا الاستفادة من اختلال موازين الحق بيننا وبين عدو لم يترك شكلاً من أشكال الجريمة إلا وارتكبه بحق شعب آمن مسالم متحضر.
لكن النظرة الواقعية تقول: لا يكفي أن نؤمن بعدالة قضيتنا، بل لا بد من امتلاك الصوت الواضح والمرتفع المدافع عنها، فالحق الأخرس هو حق ضائع بين قِطَعِ الظلم والظلام. ولا يكفي أن نكون على حق بل علينا أن نكون قادرين على إقناع الآخر بالحق الذي نحمله.
علينا الإقرار بأن الشعب السوري قد استوفى شروط النصر كاملة، وحقق النصر واقعياً وليس ادعاءً، نعم النصر تحقق من زمن بعيد على نظام الأسد الإرهابي، بإسقاطه سياسياً وعسكرياً واجتماعياً.
ولكن لم يكن في الحسبان أن يطلق الشعب ثورة يطالب فيها بالحرية والكرامة الإنسانية ثم يطلب منه تحقيق النصر على وحوش العالم التي انفلتت عليه من عقالها وخرجت من جحورها جائعة للحوم الطريّة، متعطشة للدماء الزكية.
فهل شرط انتصار الثورة أن ينتصر شعب أعزل ممنوع من اقتناء «بندقية الصيد» على جحافل العدو الروسي وجيف العدو الإيراني؟.
إن كان هذا شرطاً لانتصار الثورة فهو شرط تعجيزي يهدف إلى وضع الثورة السورية في موقف العاجز المأزوم ثم الخاسر المهزوم. ومع كل هذه الشروط المجحفة فقد كان بمقدور السوريين أن يهزموا روسيا وإيران، لو كانت المواجهة على الأرض كاملة، وهم يعلمون هذه الحقيقة، فالأرض تقاتل مع أهلها، فكيف إذا كان أهلها غيارى على بلدهم متمسكين بحقهم؟.
لنسلِّم إذاً بأن اختلال معدلات القوة لا تسمح للثوار السوريين بإحراز نصر حاسم على تحالف قوى الشر البغيضة الذين يملكون خزاناً بشرياً بلا حدود، وعتاداً حربياً بلا قيود. لكن بالمقابل نحن نتفوق عليهم بعدالة قضيتنا وجسامة تضحياتنا، وهم لا يملكون سوى الجريمة المنظمة وإرهاب الدولة.
من هذا المنطلق مطلوب من قوى الثورة السورية أن تسوِّق قضية الشعب السوري في جميع أنحاء العالم على أنها قضية عادلة محقة، بمقابل تسويق التحالف البغيض على أنه يمثل الخطر المحدق بالسلم العالمي.
صحيح أن الثورة السورية قضية داخلية لكن نظام الأسد جعلها قضية عالمية بتهجير نصف سكان سورية خارج حدود الوطن. واستدعائه لأشرار العالم ليبطشوا بالشعب السوري ويتسابقوا على قتله.
وباعتبار القضية السورية صارت قضية كونيّة فعلينا أن نكون كونيِّين في التعاطي معها. فالوطن السوري الجريح تناثرت شظاياه في شتى أنحاء العالم بفعل آلة الحرب المدمرة، وما على الوطنيين السوريين الموزعين في الأنحاء سوى التقاط أجزاء الوطن ورعايتها وإعادة تجميعها لتفويت الفرصة على النظام الهمجي في تمزيق الوطن وبيعه كـ «خردة» في السوق السوداء، على اعتبار أن الوطن مزرعة ورثها القاصر عن الهالك.
من المفارقات المؤلمة أن القضية السورية التي تطايرت في أرجاء العالم وصلت إلى معظم الناس برواية النظام الظالم، في حين لم تصل الرواية الحقيقية عن الحدث السوري. فقرئت أحياناً على أنها حرب طائفية، وأحياناً أخرى بوصفها حرباً أهلية، وقرأها البعض- للأسف- على أنها مواجهة بين نظام شرعي وتمرد خارج عن الشرعية الدستورية، كما قرئت على أنها مؤامرة دولية تهدف للإطاحة بآخر قلعة من قلاع القومية العربية، لكن الأدهى من كل ذلك أن ينظر إلى قضية الشعب السوري على أنها مواجهة بين نظام علماني ومجموعات إرهابية مسلحة، ليصبح- في نظر هؤلاء- الجزار ضحية، والضحية مجرماً.
ومن هنا: لا ينبغي ترك الفاجعة التي ألمَّت بالشعب السوري تخنق أهلها، وتفتك بأصحابها، ولا يصح ترك الحدث السوري حبيساً للداخل السوري، فلا بد من نشره على أوسع نطاق ممكن، حتى يتبين للعالم أن من يُقتلُ في سورية هم أطفال بعمر الزهور. حُرموا من أدنى حقوقهم، وفُرض عليهم الجوع والقتل والإذلال والاغتصاب والتجهيل والرعب المتصل.
إن نشر قضية الشعب السوري في الصحافة الأجنبية وعلى المنابر الإعلامية المختلفة سيسهم في كسب معركة الرأي العام العالمي، شعبياً ونخبوياً، ومن شأن ذلك أن يشكل ضغطاً على صناع القرار ليأخذوا دورهم الصحيح، ويتحملوا مسؤولياتهم الكاملة تجاه ما يحدث في سورية.
في كل يوم وفي كل ساعة ربما يرسم المشهد السوري لوحات إنسانية كارثية، تصلح الواحدة منها أن تسقط ألف نظام كنظام الأسد، فيما لو أُحسن استثمار تلك اللوحات، حيث بمقدور العالم الظالم أن يفتح محضراً في قضية صغيرة متى شاء، وبمقدوره أن يُعرضَ عن ملاحم دموية حين يشاء. لكنه سيكون محرجاً في السكوت والتخاذل فيما لو تم نشر القضية على الأفق الواسع.
ففي سورية وبينما يبحث رجل الدفاع المدني عن الناس تحت الأنقاض يتفاجأ بجثامين أبنائه ممزقة أمامه. وفي سورية يطوف الرجل بزوجته الجريحة أم الخمسة شهداء على المقعد النقال هرباً من القصف ليجد زوجته قد أراحته من هذا العناء وفارقت الحياة.
مثل هذه المشاهد الكثير الكثير.. مما يصلح أن يشكل قضية حقوقية تشغل أصحاب الضمائر، لكن بشرطين: إطلاق صوت الحق عالياً مدوياً، ووجود الآذان الصاغية، وبما أن الشرط الأول يتعلق بأولياء الدم وأهل الشهيد وأبناء الوطن فلنبادر إلى إطلاقه، فمن المؤكد أن الأمور ستتفاعل إيجابياً وبالاتجاه الصحيح.                   
الكاتب والباحث السياسي: عبد الناصر الحسين.         



ليست هناك تعليقات