آخــــــر مــا حــــــرر

معركة الوعي



                                            
كثير من الأزمات التي تتعرض لها النخب المثقفة والشرائح المجتمعية في سورية- وربما على صعيد الأمة- يمكن اختزالها بأزمة الوعي التي أصابت الكثيرين، حتى صارت سمة مميزة في منطقتنا.
الوعي هو عملية استكشاف للواقع بما يحتويه من عناصر «الزمان والمكان والأشخاص والأحداث» وإدراك العلاقة بينها ورصد تفاعلاتها، وتتبع المصلحة الأعلى من كل ذلك.
أركان الوعي
للوعي مركَّبات ثلاث وهي: «البعد والعمق والأفق»، ومن أجل استكشاف أي ظاهرة يلزم البحث في مركباتها الثلاث:
1.     بُعد القضية: لدى مواجهتنا لأي قضية لا بد من رصد بعدها الزمني الثلاثي «الماضي والحاضر والمستقبل» فالماضي له أهمية خاصة لأنه ما من مسألة إلا ولها جذورها التاريخية التي ولَّدتها وأنتجتها، ومعظم الأحداث الراهنة تم بذرها في الماضي، واحتجاب الرؤية عن الماضي يضفي غموضاً في مشاهدة الحاضر ويكثر من الصدمات التي يصعب التعاطي معها.. لكن الجهد الأكبر ينبغي أن يصب في معرفة الحاضر بكل تفاصيله الممكنة لأن تقلبات الحاضر سريعة ولا تمنح مزيداً من المهل، وحين لا نسبق في صنع الواقع وإعداده فسوف تصنع الوقائع المختلفة من الأطراف الأخرى النبيهة والنشطة حتى يصبح كل شر يحيط بنا أمراً واقعاً ثم نكون مضطرين للرضوخ إليه والانطلاق منه. لا شك أن الرؤية الواضحة للماضي والرؤية الواضحة للحاضر ستولد رؤية ثاقبة للمستقبل وصدقية في التوقعات وخاصة فيما يتعلق بالمستقبل القريب. من براعة الوعي أن يكون متصلاً متماسكاً، بحيث يبقى «الخط الزمني» ماثلاً حياً على الدوام، فلا يكفي وعي القضايا بعد فوات أوانها وانقضاء زمانها، لأن الوعي الحقيقي هو أن نعي الأزمة وهي مقبلة، لا وهي مدبرة.
2.     عُمق القضية: في العموم نلاحظ أن لكل قضية سطحاً وعمقاً، وعند التدقيق سنجد لكل قضية أسطحاً كثيرة وأعماقاً.. والمؤكد أن التعامل مع أسطح القضايا لا يؤدي إلى نتائج صحيحة بل على الغالب يعطي نتائج معكوسة لأن السطح خدَّاع.. وعند الحديث عن أعماق قضية ما علينا كذلك أن نشير إلى أن بعض الأعماق خداعة مما يملي علينا سبر الأعماق السحيقة للقضية وخاصة عندما تكون القضية مركبة ومعقدة.. لذا يلزم التوغل في أجزاء القضية الواقعة في أعماقها المختلفة، ولا يكفي الإيغال في العمق القريب من السطح، فقد يحمل الكثير مما يتناقض مع الأعماق الأخرى، كحال السطح تماماً، فالمعارف السطحية تنتج وعياً منحرفاً ومرتجفاً. وتنتج طرائق في التفكير الشكلي، يقتات صاحبه على الشائعات وينخدع باللافتات. ومن هنا يجب التحذير من «لعبة الوعي» فنصف الوعي لا يكفي بل قد يكون ضاراً وذلك فيما لو سلَّمنا بأن القراءة صحيحة.
3.     أُفق القضية: ما من قضية إلا ولها آفاق تتعلق بها وتحيط بها تأثيراً وتأثُّراً، ولا يمكن فصل القضية عن محيطها المتفاعل معها، ولا تكتمل عملية الوعي لأي قضية إلا باستطلاع ومسح لأفقها المحيط بها، والعوامل المرتبطة بها، فما من قضية إلا وهي واقعة وسط تجاذبات متعددة ومختلفة تأخذها هنا وهناك، وإن الدراسة الدقيقة للعوامل المحيطة بأي ظاهرة أو حدث تسهِّل عملية الاستنتاج والتمحيص في مآلات الأمور ومساراتها.
بالمحصلة إذا أردنا أن نعي قضية ما جزئية أو كليَّة لا بد من وعي أركانها الثلاثة «البعد والعمق والأفق».. تجنباً للوقوع بأزمات الوعي الأساسية وهي «قصور النظر وسطحية الرؤية وضيق الأفق».
بناء الوعي
إن عملية بناء الوعي تشبه إلى حد بعيد كل عمليات البناء بما فيها العمران..
1.     التأسيس: فلا بد من وضع أساس عليه تتم عملية البناء ويجب أن يكون الأساس متيناً مستنداً إلى دعائم صحيحة وإن الجهد الذي يبذل في بواكير البناء مهم جداً فلا ينبغي التعجل لأن أي خطأ في التأسيس سيكون له تداعيات سيئة لاحقاً.. وهنا لا بد من الإشارة نواة الوعي الأولى التي ستصبح لاحقاً «كرة ثلج» فالمعلومات الأولى التي تؤسس للوعي سيكون لها الكلمة العليا في الاختيارات اللاحقة من مواد الوعي وستكون المادة الأساسية في صناعة «المناظير والمعايير» التي ترصد قضية ما. ومعظم الناس أسارى للتلقي الأول وسعيد الحظ أو التدبير من باشرت ذهنه أصدق المواد في مرحلة التأسيس.
2.     التنظيف: لا يمكن أن تبدأ عملية بناء الوعي من الصفر فما من أحد إلا وتكتلت في ذهنه خلاصات حصل عليها بشكل أو بآخر لكن معظمها وليد البيئة الأولى.. لذا فقد لزم أولاً مراجعة ما عشعش في الذهن من بيانات خاطئة لا سيما الشاذ منها وعزله تماماً مع الإبقاء على السليم منها..
3.     الانتقاء النوعي: العقل هو الجوف الذي يتلقى المواد المعرفية التي ستشكل لصاحبه هوية وعيه.. والعملية ببساطة هي محض أمانة في المقام الأول.. وليست كثرة المعلومات ووفرة المعارف هي التي تبني الوعي الصحيح.. بل هو نوع المادة المنتقاة.. بعض المعارف ينفي البعض الآخر مما يفسر ظاهرة الخواء لمن يقرأ كثيراً لكنه لا يرتقي فكرياً فالأفكار يلغي بعضها بعضاً والعقل المحشو بالتناقضات هو عقل مأزوم، وكذلك العقل المفخخ بالمغالطات فإنه عقل ملغوم ينفجر عند إبداء الرأي أو اتخاذ الموقف وأخذ القرار.
4.     التأصيل قبل التفصيل: البداية الموفقة في بناء الوعي هي تلك التي تبدأ بالكليات العريضة قبل الدخول في التفاصيل الدقيقة، لأن الأصول قيِّمة على الفروع وضابطة لها. فمعظم الباحثين الذين انطلقوا من تفاصيل محددة تاهوا حين نسجوا على تلك التفاصيل أفكاراً ومناهج وخططاً، فتميزت منتجاتهم القصور والضمور. ونظروا إلى الوقائع بمنظار ضيق على مقاس التفاصيل. لكن البناء الصحيح هو الذي يبدأ بالخلاصات الشاملة المرتبة وفقاً لأهميتها فإذا أردت أن أدرس حقبة تاريخية معينة فعلي البدء بالخلاصة والعناوين العريضة بما فيها من أحداث مهمة وفقاً لحجم ومساحة تأثيرها بعيداً عن التفاصيل التي تأتي على هامش الأحداث ولم تترك ذلك الأثر المهم. ومن المهم الإشارة إلى أن معرفة الأصول تحتاج إلى حكمة وتنتج الحكمة.. بينما تحتاج معرفة التفاصيل إلى خبرة وتنتج الخبرة.           
لماذا يتفوق الوعي الشعبي على الوعي النخبوي أحياناً؟.
في كثير من الأحيان نرصد سلوكاً شعبوياً متقدماً على السلوك النخبوي، وأكثر حكمة وعقلانية منه، وهذا ليس غريباً ولا مستهجناً، فعند الشعوب تغيب المعلومة الثقافية والمعرفة الفكرية فتتحرك الشعوب بوحي فطري تلقائي، وبتوجيه من «العقل الطبعي»، وفي هذه الحالة غالباً ما تقارب الصواب، وقد تقع في المحذور عندما يتطاول الزمن وتمتد القضية دهراً طويلاً كما هو حاصل في الثورة السورية.
لكن المشكلة الحقيقية تكمن في الحالة الثانية حين يعبَّأ المثقف بمعلومات خاطئة، تلقّاها من مصادر «تجارية» أو من مراجع مشبوهة وأخرى جاهلة أو من جهات معادية، عندئذ سوف يتبنى الموقف الخطأ في المكان الخطأ والزمان الخطأ. وسوف يفرز الآراء الشاذة والمعزولة عن الواقع والبعيدة عن الحقيقة. وربما يتفاجأ حين لا تتطابق تصوراته مع الحقائق فيظن أن الخلل هو في نقص المعلومات فيمضي إلى مراجعه البائسة، ينهل منها بنهم أكثر فيزداد بعداً عن الحقيقة، ويزداد شذوذاً وانعزلاً.
ولا مبالغة في القول: عندما يبلغ هذا المثقف البائس ذروة التحصيل الثقافي فسوف يبلغ في التوقيت ذاته حضيض الوعي السياسي، لأن مزيداً من المعلومات المضللة تعني مزيداً من التيه والضياع. ومن هنا فإن ترك الوعي أفضل بكثير من الوعي الخاطئ. وأفضل بكثير من الوعي الناقص.
ضاع وضيَّع الآخرين
ولو اقتصرت هذه الآفة على صاحبها لهان الأمر، ولبقيت أزمة الوعي محصورة في صاحبها، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في بعض المخلصين من الذين يزداد حماسهم لتوعية الآخرين كلما شعروا بأن لديهم فائضاً من المعلومات، وهم يتحسرون على فقدان الآخرين لها، فتأخذهم الغيرة على الناس، وهم ينظرون إليهم بوصفهم تائهين حائرين، بينا هم يمتلكون الحقيقة بتمامها، ويعز عليهم ترك الناس فريسة للجهل والتخلف فيحمِّلون أنفسهم مسؤولية توعية الناس، وهم لا يدركون غالباً أنهم يهدمون «الوعي الطبعي» الموجود أصلاً ليقدموا لهم وعياً منحرفاً مشوهاً.
الجميع يتحدث عن ضرورة التوعية
في الأوساط المثقفة عادة ما نستمع إلى مقولة: «إن الناس بحاجة إلى توعية»، يتحدثون عن التوعية وهم يحملون موادًّ مختلفة من الوعي إلى حد التناقض، يتحدثون عن ضرورة توعية الناس وهم يتبنون أنواعاً متباينة في الوعي تظهر في اختلافهم على أدق التفاصيل وأحياناً على أثخنها. اختلافات تؤدي إلى تناحرات ونزاعات تفسد كل شيء، وحين تتقدم النخب المتناحرة باتجاه الناس لتوعيتهم تنتقل عدوى الخلاف إلى القاعدة الجماهيرية، لتعم الفوضى وتتسع دائرة الصراع، ثم يأتي المثقفون ليقترحوا حلولاً لظاهرة الفرقة التي صنعوها بأيديهم، عندها تتغير الأولويات لتصبح الأولوية هي توحيد الصفوف، بعد أن كانت مسألة الوعي هي أولى الأولويات.
البضاعة المعروضة فاسدة
أول خطوة في طريق الوعي تبدأ بشعور صاحبها بالحاجة إلى زيادة مخزونه المعرفي ورصيده الفكري، لكنه هنا سيقف على مفترق طرق، فقد يمضي في الاتجاه الصحيح أو الآخر الخاطئ. فالكثير من طالبي المعرفة يظنونها موجودة في أقرب «دكان» أو «بسطة» أو في المواقع «الأكثر تصفحاً»، وهو لا يدري أن العدو قد نصب له الكمائن هناك، حيث شعر بالسعادة والانتشاء، لظنه بأنه وضع يده على كنوز السالكين وفتوحات العارفين. ليجد- بعد فوات الأوان- أن عقله مصاب بالهزال لتجرعه السم الزعاف، ويحتاج إلى عمليات معقدة من الغسيل المتكرر ومن التعقيم والتطهير، وقد لا تجدي نفعاً، لأنها غالباً ما تترافق مع أمراض نفسية كالعجب والغرور والعزة بالإثم، فيجد صاحبها صعوبة في التخلي عن بضاعة طالما باهى بها الآخرين وراءى بها الناس. بضاعة علقت في تجاويف ذهنه والتصقت بجدران عقله فلا تنخلع إلا بانخلاع الذهن معها. إنه جنون الوعي.
الاستبداد الفكري
إن الوعي الخاطئ يضع على العين منظاراً مصبوغاً بصبغة محددة، يرى صاحبه الأشياء مصبوغة بالصباغ ذاته. ويقرأ الوقائع والأحداث وفقاً لمنظاره المنحرف، يرى الأشياء كما أراد له المؤلف أن يراها، المؤلف الذي سيطر على عقليته واحتل ساحة وعيه، ومهما تغيرت الوقائع وتبدلت الظروف فهو يرى العالم بلون واحد لا يتغير، وكيف يتغير وقد توقفت حركة الأكوان حين جف آخر حرف في الكتاب الذي قرأه؟.
الكاتب والباحث السياسي: عبد الناصر الحسين.

ليست هناك تعليقات