آخــــــر مــا حــــــرر

ثقافة الأقوياء وثقافة الضعفاء



الفرق كبير بين الذين يمتلكون «العقلية العملية» و«العقلية التنظيرية»!. فالذين يمضون أوقاتهم في تحليل الظواهر والأحداث والقضايا عادة ما يصلون إلى حائط مسدود، وغالباً ما يختلفون فيما بينهم، لأن دائرة التحليل واسعة جداً باتساع مشارب الناس ومذاهبهم وتلقيهم الثقافي الأول، لإضافة إلى اختلاف أمزجتهم. لكن دائرة الحلول أضيق بكثير من الأولى.
وفي «الثورة السورية» غلب على النخب المعارضة الطريقة التنظيرية في التعاطي مع «الحدث الكبير»، ودفعت بالبعض إلى نبش قبور التاريخ واستحضار مستحاثاته، لتفسير ظاهرة حديثة الولادة، وكان الأجدر بهم البحث عن حلول وعلاجات عاجلة ووضع خطط ساخنة، حتى لا يضيع الوقت عبثاً وتتبدد الجهود هدراً، وتنشب الخلافات بين الفرقاء.
وفي الحديث عن الحلول لا شك أن هناك من سيطرح لائحة ضخمة من الحلول، من المهتمين بالشأن السوري العام، لكن المؤكد هو أن جوهر الحلول ومركزها يتلخص بكلمة واحدة هي «القوة»!. القوة بكل أنواعها. فبعض المرضى يترددون على العيادات الصحية يشتكون من أمراض شتى، وكلما عالجوا مرضاً وقعوا في مرض آخر، وهم لا يدركون السبب الأساسي وراء كثرة الأمراض، وهو «الضعف العام» الذي أصابهم، ولو أنهم استمعوا إلى نصيحة مدرب اللياقة الرياضية والتزموا بكورسات تدريبية محددة لصارت أمراضهم من ذكريات الماضي، ولطووا صفحة الشكوى التي لا تنتهي.
هذا الكلام ينطبق تماماً على واقع الثورة السورية التي عانت وتعاني ضعفاً شديداً في جوانب عديدة، في التخطيط والتنظيم والفكر والوعي والإعداد.. ومن أعراض هذا الضعف التفكك والتفرق، وسهولة الاختراق والانزلاق، وكثرة الاستجرار وضعف القرار. وكل تلك الأعراض علاجها الوحيد هو «القوة» فكراً ووعياً وسياسة وإعداداً.
اعتاد الضعفاء أن يتعاملوا مع أي استحقاق بالدهشة والذهول، والصدمة وردود الأفعال المرتجلة، وعندما يكون الاستحقاق حدثاً كبيراً أو خطراً داهماً لا يصح مطلقاً مواجهته بالإمكانات الحاضرة والطاقات المتوفرة، ولا بد من عمليات تأهيل مناسبة وعمليات تطوير وتنمية تتناسب والحالة المستجدة.
لكن الذي يحدث هو أن الضعفاء لا يتجهزون للمفاجآت.. ولا يخططون للقادمات.. ولا ينظمون صفوفهم.. ولا يجدولون أعمالهم.. فينفعلون ولا يفعلون، ويتأثرون ولا يؤَثِّرون.   
الضعفاء ينشغلون بترميم بنائهم المتصدع، وتضميد جرحهم النازف، وإحصاء خسائرهم، وإطلاق الصراخ هنا وهناك، دون أن يفكروا بمعالجة أصل المشكلة، وهي الضعف المستحكم بهم، وقد يؤدي الانهماك بعلاج آفة إلى إنتاج آفات أخرى، حتى لو كانت الوصفة العلاجية صحيحة.
فالكيان الضعيف يستدعي مزيداً من الضعف، ويستجرُّ كثيراً من العجز، وبالمقابل فإن الكيان القوي يلتقط مزيداً من القوة، ويجتذب كثيراً من المَنَعَة، فالقوة هي العلاج الأفضل لكل داء، وهي الحل الأمثل لكل مشكلة.
المسافة بين الضعفاء والأقوياء واسعة وتزداد اتساعاً ما دام الفريق الأول متمترساً بضعفه، متحصناً بمبررات فشله، والعلاقة بين الفريقين هي علاقة تبادلية مضَّطردة، فضعف الضعفاء يمنح الأقوياء قوة مضافة، وقوة الأقوياء تنعكس على الضعفاء بمزيد من الضعف.
الضعفاء يخسرون حتى وهم يكسبون!. فهم منشغلون بالمعارك الصغيرة وفي الأماكن الضيقة، نازفين ما لديهم من طاقات، ويفرحون بكسب بعض النقاط في زاوية ما في  ميدان الصراع، وربما تكون معظم انتصاراتهم أفخاخاً نصبت لهم، ليفقدوا الكثير في مكان آخر، يفقدون ما هو أكثر أهمية وتأثيراً.
والأقوياء يكسبون حتى وهم يخسرون!. لأنهم يحرصون على كسب النقاط الحاسمة، في المكان والزمان الملائمين، متجاوزين بعض الخسائر والهزائم الناعمة.
يرى الضعفاء كل النوازل واقعة عليهم، لأنهم رضوا بالإقامة في الأماكن المنخفضة، وفيها يظنون أن أي ساقطة تستهدفهم وتتقصدهم، علماً بأن كثيراً من النوازل تصيبهم لمجرد أنهم واقعون في المستوى الخفيض من الحدث.
يشكو الضعفاء من انعدام الفرص وفقدان الحيل، ويتهمون الآخرين بتعمد الإضرار بهم ومنعهم من التمنفع بأية فرصة. لكن السبب وراء ذلك يكمن في التموضع في المكان الضيق، والتقوقع على برامج عتيقة، ولو فكَّر الضعفاء للحظة واحدة بالتحرر من ضيق الهوامش، وقلة الخيارات لانفتحت عليهم آفاق كثيرة وفرص وفيرة.
يحسب الضعفاء أن الجميع يستهدفهم وكأنهم هدف لكل رماية، لكنه الوهم الذي استحكم بذهنيَّتهم، فالخلل في تموضع الضعفاء في مرمى الآخرين الباحثين عن مصالحهم، والمتصيدين لفرصهم، والسؤال هنا موجه للضعيف: لماذا أنت تجعل من نفسك هدفاً للخصوم وصيداً سهلاً للصائدين؟.. وبدلاً من سعيك لانتهاز الفرص وصناعتها تقدم نفسك كفرصة متاحة للمتربصين؟.
خيارات الضعفاء محدودة، ما بين السيء والأسوأ، والعاقل منهم من يأخذ بالخيار السيء، ويتحاشى الخيار الأسوأ، بينما تنفتح خيارات الأقوياء على الحسن والأحسن، والحكيم من الأقوياء هو الذي يترك الخيار الحسن ويأخذ بالأحسن.
هي الرؤية الخاطئة إذاً.. حيث يرى الضعفاء أن الجميع يتآمرون عليهم، ويتربصون بهم الدوائر، وتلك الرؤية تدعوهم لمزيد من العزلة والانغلاق، وتوقعهم بالعقد الفكرية والنفسية، الأمر الذي يجلب لهم مزيداً من المضرَّات والضربات، فيزداد إيمانهم بـ «نظرية المؤامرة الكونية» التي يرون من خلالها كل الأشياء قاتمة معتمة، حتى المنافع والمصالح يشككون بها، باعتبار العالم لا يمكن أن يقدم لهم أي خير أو منفعة.. فالضعفاء يحسبون معظم العالم منشغل بالكيد بهم.. بينما الأقوياء يعتقدون أن جزءاً كبيراً من العالم مهتم بالتمصلح معهم.
الأمر الكارثي في ضعف الضعفاء يكمن عندما يرى الضعفاء في الفرقة والهزيمة والمحنة والفشل خيراً خالصاً!. على اعتبار تلك المصائب تقع على الأولياء الصالحين، ولا يرونها تصيب الضعفاء المساكين قليلي الحيلة والتدبير.. فلو رأى الضعيف ضعفه لابتدر إلى معالجته، لكن المشكلة أن يرى أنه وصل إلى مصافِّ الأولياء الصالحين ومنازل الأصفياء المقربين، حين تصيبه مصائب الفشل وعواقب الهزيمة.. فكيف يسعى لترميم ضعفه من كان يرى نفسه في ذلك المقام المرموق؟.. هو الانفصام ذاته، الذي يصيب من لا يعرف حقيقة ذاته.. فبينما هو قابع في حضيض ضعفه يتوهم أنه في قمة مجده. وبينما يقوم بتوثيق هزائمه وإحصاء خسائره يظن أنه يؤرِّخ لمجده ونهضته.
لكن ثقافة القوة تحتاج إلى تدرُّب على الصلابة الذهنية والتماسك النفسي.. وذلك هو العتاد الأهم الذي ينبغي الاعتداد به لمواجهة كل أنواع المفاجآت كالنجاح أو الفشل.. فمنهم من ينهزم حتى وهو منتصر!.. ومنهم من ينتصر حتى وهو منهزم.. إن الخوف من المواجهة قد يجلب الهزائم.. وإن الهلع الذي يسبق النصر قد يحرم أصحابه من فرحة الوصول.. وإن الفوز بالنقاط الحاسمة هو الأهم، والتحضير الجيد للجولات الأخيرة هو الألزم.. وكم من ساقط من أعلى قمة لأنه غير معتاد على بلوغ القمم. 
من غاب عن تحصيل مصالحه فلا يعتب على المجتهدين في تحصيل مصالحهم، والعاكفين لإنجاز أهدافهم، والأمر بين الناس تدافع، والغلبة للأقوى. المشكلة الحقيقية ليست في الضعف بحد ذاته، بل في «ثقافة الضعف» والحل الدائم ليس بالقوة بحد ذاتها بل بـ«ثقافة القوة».. والتاريخ لا يرحم الضعفاء المتفرقين.. ولا يعذر الدراويش المتخلفين. والعالم لا يحترم إلا الأقوياء المتماسكين.. والجدل الحقيقي هو كيف نبني قوتنا التي نبني بها مجدنا ونصنع نهضتنا؟.
 عبد الناصر ابو المجد.

ليست هناك تعليقات