آخــــــر مــا حــــــرر

ثوار سوريا: لا لقاء في منتصف الطريق


لقد سقط نظام الأسد منذ اللحظة الأولى التي سقط فيها جدار الرعب الرهيب الذي كان جاثماً على صدور السوريين، ومن هنا فإن الفضل في ذلك يعود- بعد الله- لمن أطلق الصرخة الأولى في وجه النظام المجرم، رغم الرصاص المنهمر كالمطر، والنار المنسكب كحمم البراكين.
يتساءل البعض: ما دمتم- أيها السوريون- تتحدثون عن نظام ظالم قاتل مستبد- كما تزعمون فلماذا سكتُّم كل تلك المدة تحت وطأة الذل والهوان؟. ولهؤلاء يمكن القول: يستطيع أحرار سورية أن يضحُّوا بأنفسهم ويتمردوا على ظلم النظام وجبروته، ولديهم الشجاعة على ذلك، مع أن أنماط التعذيب التي تنتظرهم لا مثيل لها، لكنهم لا يستطيعون التضحية بأعراضهم!. فقد وصلت القذارة بالنظام الأسدي إلى حد معاقبة أهل المعارض وذويه وأصدقائه إذا فكَّر بإطلاق كلمة واحدة تعارض برنامجه التسلطي.
وهذا أحد الأسباب التي كانت تؤخر اندلاع الثورة أو بلورة أي شكل من أشكال المعارضة، وهناك أسباب أخرى كثيرة لكن معظمها يتعلق بطبيعة المنهج المرعب الذي يتبناه النظام في معاقبة مظاهر التمرد حتى قبل أن تولد، فقد يسجِّل النظام عليك مجرد صمتك في تبجيل القائد الظالم في مناسبة أو أخرى، بمعنى أن على الناس جميعاً أن يدأبوا على التسبيح بحمده بكرة وعشياً، وإلا فإن الغضب يقع على من لا تلهج ألسنتهم بذكره، ويعدُّ هذا بحد ذاته تمرداً يجب قمعه، من باب «الوقاية خير من العلاج».
بتطبيق النظام القاتل لمنهج «الرعب» نجح في إذلال الناس وسحب مضامين المروءة والشهامة من الرجال وطمس معاني القيم والفضائل في المجتمع، فأجبروا الناس أن يكونوا هتَّافين للحاكم وأجبروا الضحية أن تهتف لجلادها، حتى حانت ساعة الحقيقة باندلاع شرارة الثورة التي أسقطت من حساباتها عواقب التمرد ونتائجه الفادحة فسمع النظام لأول مرة هتافات لا تروق له ومن خارج المنهاج العبودي التَّذلُّلي، كان يخشى السوريون أن يقولوها في الأحلام «الشعب يريد إسقاط النظام».
وحين ارتفع صوت الأحرار غاضباً مطالبين بالحرية والكرامة غضب طاغية سوريا غضباً ممتزجاً بأحقاد تراكمية على الشعب الثائر، وراعه المشهد الغريب، فصبَّ نيرانه على المتظاهرين في الطرقات والساحات، فسقط الشهداء بأعداد رهيبة، ووقع الجرحى بأعداد مهولة، فازداد غضب الشعب الأبيِّ، ليلتقي الغاضبان في معركة وجودية، لا لقاء فيها في منتصف الطريق، لأن كل طرف يريد إسقاط الآخر، فإذا رأيت معارضاً لا يريد إسقاط النظام، فهو منافق كاره للثورة والشعب، وإذا رأيت موالياً لا يريد إسقاط الشعب الثائر، فهو حيادي كاره للنظام.
على الرغم من فداحة تكاليف الحرية والكرامة وارتفاع أثمانها فقد تجاوز ثوار سوريا مرحلة الندم على ثورتهم، بل إنهم ازدادوا إصراراً على متابعة درب النضال، لأن النظام الذي ثاروا عليه قبل تسع سنوات أثبت لهم أن ثورتهم كانت على حق وأن هذا النظام لا يمكن التعايش معه إلا كمن يبني بيته على «فوهة بركان»، وقد حضرت دواعي جديدة للاستمرار في الثورة وغابت تماماً دواعي الندم على الثورة، بل أكاد أجزم أن معظم السوريين الذين لاذوا بالحياد الصامت يوم قامت الثورة هم الذين ندموا اليوم على تخليهم عن الالتحاق بركب الكرامة.
لا يمكن لمن اختار طريق الحرية أن يندم عليه، مهما كانت التضحيات، لأن الثورة غضب متفجّر، ولم يبدر من نظام القتل والإجرام ما يسكِّن الغضب المتصاعد، بل على العكس تماماً فقد بدا من النظام ما يلهب براكين مستعرة من الغضب الملتهب، الذي لا يهدأ إلا بعد استئصال شجرة الظلم من قعرها.
يخطىء من يظن أن الثورة السورية وكالة حصرية له أو لغيره.. إنما هي لكل الشرفاء الذين اختاروا طريق الحق والحرية والكرامة، وهي فرصة لنيل شرف المشاركة بأعظم حدث في العصر الحديث.
لقد قامت الثورة السورية ضد فساد النظام واستبداده، وفي كلا الأمرين نال النظام العلامة الكاملة، فقد جعل من سورية مملكة للرعب والظلام، ومرتعاً للفساد والمحسوبيات.
معظم شعوب العالم تنعم اليوم بالحرية والرخاء، والشعب السوري هو أحق من غيره بالحياة الحرة الكريمة، وقد قام بثورته لإنجاز مشروع واحد هو إعادة الاعتبار للإنسان السوري الذي سلب أدنى شكل من أشكال حقوقه المشروعة.
لا يحق لأحد أن يلوم السوريين على ثورتهم المباركة، فلديهم ألف مبرر للقيام بها، يكفي أن المواطن السوري لم يكن يحظى بالأمان إلا عندما يصبح عبدا ذليلاً، يقدّم لسيده طقوس الطاعة العمياء مصحوبة بالخضوع والخنوع.
أقسموا الأيمان أن ثورة الكرامة لن تنتصر، لكنها انتصرت وتنتصر في كل يوم، وأطلقوا الوعود على تركيع الشعب الأشمِّ لكنه بقي راسخاً شامخاً، والدليل الواضح على انتصار ثورتنا هو قهرها لجحافل الأوغاد التي جاءت جرياً وهرولة، ثم رجعت جيفاً معطَّلَة. ويحق للسوري الثائر أن يرفع رأسه مفتخراً بثباته، متباهياً بمنجزاته، فها هي جحافل الباطل والعدوان تخترق الأرض الطيبة لتدنس تربها ثم تعود محمولة بتوابيت الذل والعار.
وحين يطالب السوريون بكرامتهم ثم يجدون الكثيرين لا يدعمون ذلك المطلب فهذا يعني أن منسوب الكرامة العالمية شحيح، وحين ينشد السوريون حريتهم ثم يتخلف العالم عن نصرتهم فهذا يدل على أن سوق العبيد لا زال رائجاً، ولا زال لسماسرة البشر مكان واسع في عالم الظلمات، وعصر النفايات.
نظام الأسد هو بناء مؤلف من لبنات.. فساهم أيها الحر بنزع ما تستطيع من لبنات الشر، ولا تستهن بمساهمتك فقد تكون اللبنة التي تنتزعها من موقعك هي من أهم مرتكزاته.
الكاتب السوري: عبد الناصر ابو المجد  24/3/2020.

ليست هناك تعليقات