آخــــــر مــا حــــــرر

كل الناس يموتون.. وليس كل الذين يموتون يستشهدون




كل الناس يموتون وليس كل الذين يموتون يفوزون.. شتان بين ميتة مشرفة وأخرى مخزية.. شهداء ثورة الكرامة مضوا من غير وداع ولا موعد للقاء القادم.. لكنهم أودعوا فينا وصيتهم العصماء.. بألا نقبل المهانة لأنفسنا ولا لأهلنا ولا لأجيالنا.
كل الناس يموتون حين يرحلون إلا الشهداء فإنهم يحيون حياة النعيم حين يرحلون.. كل الناس يتحسرون على موتاهم إلا ذوي الشهداء فهم يفتخرون.. بين الناس ويتباهون.
في السماء حيث الرحاب الطاهرة.. هناك أقاموا للشهيد عرساً شاركت فيه ملائكة الرحمن.. وهللت له الأنحاء المباركة والأرجاء الرحيبة.. من خرج من ضيق الأرض فلا تحزنوا عليه لأنه صعد إلى سعة السماء.. إلى حيث المجد والعلياء.. رحل من ظلم أهل الأرض إلى عدالة رب العباد. الشهادة .. كلمة يسمعها الكثيرون ويتمنى نيلها الكثيرون.. لكن لا ينالها إلا الأوفياء الصادقون.. ممن يهبون أنفسهم للذود عن مبادئهم لكنهم قليلون.. والكرام قليل.
ذكرتك يا شهيد في كل انتصار يحققه الثوار.. فما من انتصار إلا ولك نصيب فيه.. لأنك يا شهيد أنت الذي أسست للشجاعة صروحاً.. وللإقدام عروشاً.. ورسمت ملامح العزة والإباء للأمة جمعاء..
ذكرتك يا شهيد وأنا أتابع قوافل الشهداء تمضي إليك.. وأحملها سلامي لروحك الطاهرة.. وأنت مقيم في علياء المجد تستقبلها مطمئناً بأن المركب ماض إلى غايته المثلى.
يا شهيـداً أنـت حـيٌّ.. ما مضى دهرٌ وكانـــــا..
ذِكْرُكَ الفـوّاحُ يبقـى.. ما حيينـا فـي دِمانــــــا..
انـت بـدرٌ سـاطـعٌ.. ما غابَ يوماً عن سمانــــا..
قد بذلتَ النفسَ تشري.. بالـذي بِعـتَ الجنانــا..
هانَتِ الدُّنيا و كانـتْ.. دُرَّة كانـت جُمـانـــــــــا..
فارتضيتَ اليومَ عدنـاً.. خالـداً فيهـا مُصانـــــا.
أيها الشهيد لك في أعناقنا أمانة تاريخية لن ننساها.. سنرويها للأجيال القادمة، حتى يعلم الجميع أن أرواح الطيبين كانت في يوم من الأيام غمامة زينت الأرجاء.. تحمي الوطن من كيد الأشرار ومكر الفجَّار.
بعد قرون من الجفاف والقحط، ها هي سوريا تعيد للأمة معنى الشهادة والشهداء.. فللشهادة- في سوريا- معناها الحقيقي.. في سوريا لا يموت المرء خدمة للطغاة.. ولا يموت ضحية للشعارات الزائفة.. اليوم شهيدنا هو الشهيد الأصلي الذي لا غش فيه.. لأنه يموت في سبيل الحق الخالص والقضية العادلة.
ثورة الكرامة السورية أعادت للذاكرة معنى الشهادة.. فلم يخطر ببال أحد أن في سورية أرواحاً طيبة اختارتها مشيئة الله لتكون ضماناً للوطن.. وحصانة لمستقبله.. ورصيداً للأجيال القادمة.. تتعلم منه أن للكرامة ثمناً قدمه خيرة الناس.
للشهادة- في سورية- معان مختلفة تماماً عما هو مألوف في أدبيات هذه المسألة.. وذلك من جهات عدة.. فالشهادة في سورية تضحية وفداء.. وبذل وعطاء.. لما هو أغلى شيء يملكه المرء في حياته.. وهو روحه المقيمة بين جنبيه.. وفي ثنايا أضلعه.. أضلعه التي ربما تحطمت قبل تقديم الروح.. بفعل آلة الإجرام المستبدة.. بمعنى أن شهيد سورية يقدّم قبل استشهاده الكثير الكثير من صبره وجلده.. حتى يصير تقديم الروح أهون من كل شيء يسبقه.
لقد أعاد شهداء سورية الاعتبار المفقود لمعنى الشهادة.. حيث احتكر الطغاة مفهوم الشهادة لأجل حروبهم الزائفة.. ومواجهاتهم الكاذبة.. لكن الشهادة في سورية هي حقيقة واقعية لا تقبل الجدل.
شهداء سوريا هم هدية الله للوطن الجميل.. وهم الضياء في حلكة الظلام.. والغيث الكريم في واحات التصحر والجفاف.. هم الخير والبركة.
شهداء سورية لم يموتوا بل هم أحياء عند ربهم يرزقون.. الذي مات هو الضمير العالمي العام.. ومنظومة القيم الإنسانية هي التي دفنت.. ولئن رضي العالم بالظلم الواقع على الشعب السوري فالعالم هو الخاسر.. ويبقى الشعب الثائر هو الذي ربح كرامته ولو خسر كل شيء.
شهداء سورية أنتم عنوان الحق والحقيقة.. علمتم الناس خير القيم.. علمتمونا كيف يقدم المرء أغلى ما يملك.. ثم ينسحب من عالم ظالم مظلم بهدوء وسلام..
يا شهداء الوطن: تعلمنا في مدرستكم المجيدة أن الموت واحد من حيث الشكل.. لكنه يختلف من حيث المضمون.. ما بين موت عنوانه العزة والكرامة.. وموت عنوانه المذلة والمهانة.
شهداء الحرية أنتم وديعة في ضمائرنا.. لن نضيِّعها ما حيينا... رسمتم بدمائكم الزكية لوحات من البطولة والفخار.. سترصِّع صفحات التاريخ تألقاً وضياءً.
حين نستذكر شهداء الثورة السورية تنبعث في نفوسنا كل معاني النبل والطهر والتضحية والعطاء... فالشهيد الذي قدم روحه لم يكن حريصاً على أن يرى النصر بعينه بمقدار حرصه أن يراه الآخرون.
يا شهداء سوريا.. في اللحظة التي غادرتم فيها هذه الحياة فقد كتبت لكم حياة أخرى.. في دار الخالدين الأطهار.. وحفرتم أسماءكم في شغاف القلوب الوفية وفي سجل الماجدين الأبرار.
شهداء الكرامة يا من سكنتم في قلوبنا وأقمتم في مهجنا.. لن ننساكم.. فأنتم من وضعتم حجر الأساس لكرامة الوطن.. وأنتم من فتح باب الشرف بعد عهود من المذلة والصغار.. أنتم أصحاب المبادرة في تكريس قيم الحرية والعدالة والمساواة.
حين نستذكر شهداء الكرامة ينتابنا شعور بالحزن على فراقهم.. لكن شعور الفخر هو الأقوى والأشد حضوراً.. ويحق لنا الفخر بخير الرجال وأعظم الأبطال.. فهم شامة على خد الزمن.. وهم علامة فارقة في تاريخ الأمة والوطن.
من مات شهيداً في وطني ولم يعرفه أحد فلا تحزنوا عليه.. فله في سجلات الخالدين اسم مزخرف بخيوط من ذهب ونور.. وفي السماء أحبابه وأصحابه الذين يعرفونه جيداً.. وانتظروه بشوق.
أيها الراحلون إلى رحاب الخلد والشرف المبين.. شكراً لكم لأنكم أقمتم للخير والعدالة أدق الموازين.. وبنيتم صروح المعرفة المختصة بتعليم أرقى القيم الانسانية وأسمى المعاني البشرية.
نام الشهيد في قبره هانئاً مرتاحاً.. وصعدت روحه الزكيّة إلى ربّها راضية مرضيّة.. لتسكن جنة عرضها السماوات والأرض.. وتركوا بين أيدينا جَذوة الحرية والكرامة التي أوقدوها.. وقيمة التضحية التي قدموها.. ذهبوا إلى الراحة الأبدية.. وفتحوا لنا باستشهادهم بوابات المسؤولية والنضال.
من رحيق الشهادة نستنشق عبير الكبرياء.. ومن وحي الشهادة نتلمس طريق الأوفياء.. في معارك الآخرين يتساقط القتلى من أعمار متقاربة.. وفي ملحمة التاريخ السورية يتساقط الشهداء من كل الأعمار.
مع كل كتلة من اللهب تتساقط على أرض الوطن الحبيب وفي كل مناسبة وعيد نتذكر شهداء الوطن.. نتذكر شهداءَ  تلقَوا بصدورهم كل ذلك الحريق الهائل دفاعاً عن ارض الوطن الحبيب.
في أفضل الحالات فإن الأموات يبنون القبور ويعمرونها بأجداثٍ تصير تراباً.. لكن شهداء سورية يبنون صروحاً من المجد والعز والكبرياء.
ستظل قلوبنا مفعمة بحب الشهداء الذين قضوا دفاعاً عن الأرض والكرامة والعرض.. فيا شهداء الوطن أنتم قدمتم لنا مادة أطلقت السنتنا افتخاراً بكم.. وأنعشت أرواحنا تفاؤلاً وأملاً بأن القادم أفضل.
مهما تعقدت الأمور.. وتشابكت الأحداث.. فستبقى سورية بخير.. لا يضرها ظلم الظالمين.. ولا يضيمها غدر الغادرين.. ففي سورية مدَّخرات قيِّمة من القدرات والطاقات الخلاقة.. وفيها مخزون من الشهداء يكفي لضخِّ شلالات من الضياء تنير الدرب للأجيال القادمة.. وتنثر الأمل في ربوع الوطن الجميل.
الشهيد نجمة الليل التي ترشد من تاه عن الطريق.. كلّ قطرة دم سقت نخيل الوطن فارتفع شامخاً هي شمعة تحترق ليحيا الآخرون.. وكلُّ روح شهيد هي جسر يعبر عليه الآخرون إلى الحرية.. وهو الشمس التي تشرق إن حلَّ ظلامُ الحرمان والهوان.. رحمة الله عليكم شهداء الوطن الحبيب.
«ترابك يا وطني كان غالياً جداً على قلوبنا لكنه أصبح اليوم- بعد ارتوائه بدماء الشهداء- أطهر الأوطان وأعزها وأغلاها».. «صحيح أن أرواح الشهداء صعدت إلى السماء تعانق العلياء.. لكنها تركت لأهل الأرض أفضل الزمر من الدماء».
ليس الميت من ووري الثرى وودعه الناس بالحزن والبكاء.. لكن الميت من مات ضميره فانعدم الإحساس لديه وتعطل الشعور بين جنبيه.. وليس الأموات من قتلوا ثمناَ للحرية والكرامة.. إنما الأموات هم الذين قتلوا ثمنا للعبودية ودفنوا أنفسهم في مقابر الإذلال مع الصاغرين الأنذال.
ناصر ابو المجد 21/3/2020.

ليست هناك تعليقات