آخــــــر مــا حــــــرر

كفرنبل ضمير الثورة السورية

                                                   
«كفرنبل» ضمير الثورة السورية تسقط اليوم في يد قوات النظام المتهالكة.. والحديث الآن عن روعة المدينة الثائرة وليس عن أسباب سقوطها.. وربما تعود قريباً لأهلها الشرعيين وربماً تتأجل عودتها لتعود مع أخواتها من خلال مشروع تحرري متجدد.  
يحلم السوريون الأحرار دوماً بسورية الجديدة، ويتخيلونها بأفضل صورة وأحسن تقويم، ويحق للسوريين أن يرسموا لسورية أجمل الصور وأفضل التراسيم بالنظر إلى جمال شعبها ومدى قدرته على الإبداع والنهوض والبناء.
وفي وطني سورية مدينة جميلة طيبة الأنسام عذبة المياه، يمتاز أهلها بنقاء الفكر وعمق الوعي وكرم الأخلاق. إنها مدينة «كفرنبل» التي اختزلت في طياتها شكل سورية الذي نبحث عنه في زوايا التاريخ، حيث غيَّبه أهل البغي والعدوان عقوداً من الزمن.
تقع مدينة «كفرنبل» في «محافظة إدلب»، شمال غربي سورية، وتتبع إدارياً لمنطقة «معرة النعمان». ويقال: إن أصل كلمة «كفرنبل» روماني وتعني «مزرعة النبلاء»، حيث تشتهر بزراعة الأشجار المثمرة، كالتين والزيتون والفستق الحلبي، ويشتهر سكانها بحرفة صناعة الفسيفساء.
«كفرنبل» من أوائل المدن التي شاركت في الثورة، فقد خرجت في مظاهرات سلميّة، كان أولها بتاريخ «1/4/2011»، ورُفعت فيها أول لافتة كتب عليها المكان والزمان: «كفرنبل 29/4/2011» ردّاً على ادعاءات الإعلام السوري وقتها بأنَّ المظاهرات كانت جميعها مفبركة. وفي «تموز 2011» انتشرت قوات الأمن في البلدة، ممَّا اضطَّرَّ ناشطيها للنزوح إلى القرى المجاورة.
بقيت المدينة تحت سيطرة النظام حتى شهر «آب 2012» إلى قام «الجيش الحرُّ» بتحريرها، ممَّا عرضها لهجماتٍ عديدةٍ من قبل قوات النظام، أدّت لسقوط عددٍ كبيرٍ من الشهداء، وتدمير ما لا يقل عن «60 %» من بيوتها.
تعرضت «كفرنبل» بتاريخ «28/8/2012» لقصفٍ عنيفٍ من طائرات النظام ما تسبب بما عرف بمجزرة «كفرنبل» وقد كُتب أسماء شهدائها الـ «26» على لوح تذكاريِّ نُصب في إحدى ساحاتها.
وأثناء فترة سيطرة تنظيم «الدولة- داعش» على المدينة خلال عام «2013» قام التنظيم بمضايقة الأهالي والتشديد عليهم، كما قام بمداهمة المؤسسات الإعلامية والتنموية فيها عدة مرات بتهمة العمالة مع الغرب، وفي الأسبوع الأخير من شهر كانون الأول «2013» ورداً على انتقادات «كفرنبل» اللاذعة لـ «تنظيم داعش»، داهم الأخير كلّاً من مقري المكتب الإعلامي للمدينة وإذاعة «هوا فريش» المحلية، واعتقلت عدداً من العاملين فيهما، كما قامت بنهب جزءٍ كبيرٍ من المعدّات والمقتنيات وبتخريب المقرين. في شهر «كانون الثاني 2014» أثمرت ضغوط «الجيش الحر» والفصائل الثورية عن خروج «داعش» من المدينة دون قتال. وبقيت المدينة تحت سيطرة الثورة حتى داهمتها شراذم القاعدة من «عصابة الجولاني» فاستبدت بأهلها واغتالت ناشطيها واعتقلت إعلاميِّيها وحاولت إطفاء جذوتها الثورية التي أذهلت العالم بلافتاتها المبهرة.
أطلق ناشطو «كفرنبل» عدّة مبادراتٍ مدنيّةٍ منها «تنسيقية كفرنبل» وصفحة «أخبار كفرنبل الحدث» على «الفيسبوك» و«المكتب الإعلامي في كفرنبل» وقد اشتهر الأخير بلافتاته التي اتسمت بطابع الكوميديا السوداء، والتي صبّت جام غضبها على جميع القوى الفاعلة الموجودة على أرضها، وكذلك الجهات والتنظيمات والهيئات المتفرجة والصامتة على مأساتها، لتصبح «كفرنبل» معملاً للأفكار والمواهب والرسوم والتعليقات الساخرة والنقدية، مما جعل الكثيرين يصفونها بـ«ضمير الثورة السورية». وقد طوَّر المكتب الإعلامي لافتاته وخطَّ العديد منها باللغة الإنكليزية لتصل نداءاته إلى الغرب، كما أصدر مجلة «المنطرة» ومجلة «الغربال» ومجلة «زورق» للأطفال و«راديو فرِش» ومشروع «باص الكرامة» ممَّا عرَّض المكتب الإعلامي لضغوطٍ شديدةٍ، وكان منها محاولة اغتيال رئيسه «رائد فارس » بتاريخ «29/1/2014». رائد الفارس شهيد «كفرنبل» الأغر الذي استشهد يوم 23 نوفمبر 2018 على يد العصابة العميلة «هيئة تحرير الشام» هو ناشط إعلامي سوري بزغَ نجمهُ إبّان الثورة السورية ضدَّ نظام الأسد وزادت شهرته عام 2013 بعدما أصبحَ فاعلًا مدنياً وأحد أبرز المُعارضين لسياسات النظام السوري وباقي الجماعات المُتشددة والمُتطرَّفة. اشتهرَ رائد على نطاقٍ واسع باعتبارهِ مُصمِّمَ اللافتات التي كانَ يهاجم فيها شِعرياً بشار الأسد ومؤيديه. ورغم التهديدات التي تعرض لها أصر على البقاء في سوريا، مناديًا بإسقاط النظام، ورافضًا سلطة الجماعات “المتشددة”.
اغتيل رائد الفارس مع صديقه الناشط «حمود جنيد» على يد ملثمين يعتقد الناشطون أنهم يتبعون لعصابة الجولاني في وسط «كفرنبل»، وغدا خبر استشهاده يوماً حزيناً في إدلب، فارتباطه بالثورة السورية وأثره طوال سنوات نشاطه السلمي يكاد يكون محبطاً لدى كثير من شباب الثورة، خاصةً مع توجه الأنظار إلى محافظة إدلب ومحاولات تصويرها بأنها بقعة سوداء بعيداً عن أي حراك سلمي مدني.
في الذكرى الثانية للثورة في «آذار 2013» قدمت «احتفالية الشارع السوري» عروضاً سينمائيةً في عدّة مدنٍ منها «كفرنبل» التي أسهمت بفيلمٍ قصيرٍ تحت عنوان «دستور كفرنبل» بالإضافة لأعمالٍ فنيّةٍ أخرى. ومنذ «تشرين الثاني 2013» أسسَّت منظمة «اتحاد المكاتب الثورية» التي تسعى لمحاربة الفقر والبطالة والترويج للثورة السورية مشغلاً لصناعة «اللوحات الفسيفسائية» مستوحيةً لوحاتها من أعمال فنانين سوريين. وفي «نيسان 2014» أٌطلقت «حملة عيش» التي اهتمت ببثِّ الفكر الثوري والمدني عن طريق الرسم على الجدران. وفي «حزيران 2014» ورداً على حملة بشار الأسد الانتخابية أطلق ناشطو «كفرنبل» حملةً مضادةً بعنوان «وطي صوتك».
هذا غيض من فيض الفعاليات الثورية والمدنية المتحضرة والراقية التي أنتجتها «ثورة كفرنبل»، وهو وحده كاف لوصف المدينة الثائرة بـ «ضمير الثورة السورية».
كفرنبل التي سقطت اليوم بيد الميليشيات الطائفية ستعود حرة كريمة رافعة الرأس شامخة الجبين هذا ما عاهد عليه أحرار سوريا عهداً لا تراجع عنه.

الكاتب والباحث السياسي : عبد الناصر محمد .

ليست هناك تعليقات