آخــــــر مــا حــــــرر

القضية السورية قضية حقوقية بامتياز



منذ اللحظة الأولى لانطلاقها تميزت «الثورة السورية» عن غيرها من ثورات «الربيع العربي» بأنها «ثورة حقوقية»، حين نادى الشعب السوري بالحرية والكرامة المفقودتان أصلاً بفعل القبضة الأمنية الشديدة. ولم تكن ثورة مطالب معيشية أو احتياجات حياتية حيث عبرت المظاهرات الأولى عن هذا بشعار «يا بثينة يا شعبان الشعب السوري مو جوعان».
وبهذا المعنى لا تزال الثورة السورية تمتلك عوامل بقائها ومسوغات وجودها، إلى أن يتمكن الشعب السوري من نيل حقوقه وتحقيق أهدافه التي ناضل من أجلها، وقدم التضحيات الجسيمة في سبيلها.
عند الحديث عن أهمية خوض المعركة الحقوقية لا بد من استحضار حقيقة أن الثورة السورية تخوض المعركة بـ «صفر جرائم ومئة بالمئة من الحقوق» بينما الطرف الثاني في جعبته «صفر شرعية ومئة بالمئة من الجرائم».. فالثورة السورية انطلقت ابتداء مدعومة بالقانون الدولي الذي يكفل حق «التظاهر السلمي».. ثم أنتجت طلائع «الجيش الحر» الذي تشكل للدفاع عن المظاهرات السلمية ورفض الأوامر بإطلاق النار على المدنيين، وهو بالتالي مبرأ من الجرائم التي يحاسب عليها القانون.. ثم عمل النظام على الزج بالقوى الإسلاموية الإرهابية التي ارتكبت جرائم كبيرة بحق الشعب السوري والناشطين الثوريين، والثورة السورية غير مسؤولة عن تلك جرائم تلك القوى الظلامية التي أخرجها النظام السوري والآخر العراقي من السجون والمعتقلات لينفذوا مخططاً فظيعاً ضد السوريين الأحرار.
يمكن تشبه حال الثورة السورية برجل مسالم اعتدى عليه رجل ضخم مفتول العضلات مدجج بالسلاح فاستولى على ماله وقتل بعض عياله، واختطف البعض الآخر، فذهب الرجل المظلوم إلى القاضي شارحاً له ما حدث معه بالأدلة والبراهين فنصحه القاضي بالتدرب على فنون القتال وتقوية جسمه استعداداً لمنازلة المعتدي واعداً إياه بالمساعدة.. فأدرك الرجل أن القاضي ينصب له فخاً محكماً يكلفه المزيد من الخسائر دون أي مكاسب، فالمسافة بعيدة بينه وبين الظالم من حيث القوة الشكلية.
ليذهب الرجل المظلوم إلى قاض آخر عارضاً عليه شكواه آملاً أن يساعده على إنصافه وتحصيل حقه، ليتفاجأ الرجل بموقف صادم من القاضي الذي نصحه بالتفاوض مع المجرم على الثمن الذي يمكن أن يدفعه ليسترد ذويه المخطوفين وأدرك أنه فخ من نوع آخر سيفقده المزيد من المال والجهد وربما يخسر نفسه.
المؤكد أن الطريق الذي سلكه المظلوم صحيح من حيث أنه قصد القضاء بحثاً عن الحلول!!!... والمؤكد أكثر أنه لم يكن موفقاً بهذين القاضيين.. لكن الأكثر تأكيداً هو أنه سيعثر ذات يوم على قاض يمسك ملفه بصدق واقتدار يعيد له جزءاً من حقوقه ويعاقب المجرم على إجرامه مقابل الحق المهدور.. وريثما يجد المظلوم ضالته فهو مطالب حتماً بتقوية نفسه عسكرياً وتنمية مهاراته سياسياً.
من المهم جداً الاستعداد للمعركة العسكرية حين تفرض على الثورة السورية لكن لا ينبغي المراهنة عليها ولا القبول بنتائجها..كما من المهم جداً التحضير للاستحقاقات السياسية حين تتقدم الدول بالمبادرات لكن لا يصح مطلقاً اعتبارها نهاية المطاف والتسليم بمخرجاتها.
عمل النظام الطائفي وحلفاؤه على حرف الثورة عن جوهرها الحقوقي بالذهاب بها بعيداً في اتجاهين: الاتجاه العسكري، والاتجاه السياسي.
■ في الاتجاه العسكري:
 أجبر نظام الأسد الشعب السوري المسالم الوديع على المنازلة الحربية، على غير رغبة من الشعب  ولا تخطيط مسبق ولا إعداد ولو بالحد الأدنى، حيث كان ممنوعاً على الشعب السوري حيازة «جعبة الصيد»، أرادها النظام منازلة عسكرية لأنه يعلم أنه قادر على تسخير ترسانة السلاح ضد الشعب الضعيف، والزج بالجيش في المواجهة مع الناس المطالبين بحقوقهم.
إذاً: «عسكرة الثورة» تعني بالضرورة جرّها للهزيمة المحتومة، لكن «حقوقية القضية» تعني حتمية انتصار الشعب الثائر على جلاديه، ومن هنا فإن أبغض شيء للنظام الحديث عن «حقوق الإنسان» و«القوانين الدولية» لأن ذلك يحمل مضامين ومفردات تزلزل كيانه مثل الحديث عن «جرائم الحرب» و«الجرائم ضد الإنسانية» و«المحاكم الدولية».
إن النظر إلى المشهد السوري بمنظور عسكري صرف يعني التسليم بنتائج المعركة، ومنح الشرعية للمنتصر، والانطلاق من الوقائع على الأرض، وتجاهل حقوق الناس مع وضوحها، والتغاضي عن الجرائم المرتكبة من طرف المنتصر.
وفي الحالة السورية لو تخيلنا أن النظام الأسدي انتصر على «قوى الثورة السورية» بحرب عسكرية «نظيفة» لما جاز مطلقاً تجاوز حقوق الشعب السوري المشروعة، لأن الشعب أصلاً لم يخرج في ثورته ليخوض حومات الوغى، ولا علاقة مطلقاً بين نتائج المعركة ومطالب الشعب السوري، بل يجب تحييد الشعوب أصلاً عن الصراعات المسلحة على افتراض أن هناك صراعاً مسلحاً في سورية.
فكيف وقد أطلق الشعب السوري «ثورة نظيفة» فقابلها النظام بإطلاق «معركة قذرة».. قذرة في تخطيطها، وإدارتها وأدواتها. استخدم فيها كل أنواع الأسلحة المحرمة دولياً، علماً بأن استخدام الأسلحة التقليدية «غير المحظورة» دولياً ضد المدنيين هو «جريمة ضد الإنسانية». فكيف باستخدام الغاز الخانق ضد أطفال لجأوا إلى الأقبية هرباً من الصواريخ الفراغية والأخرى الارتجاجية والعنقودية والفوسفورية ومن «منظومة السكاكين» الطائفية، ليتسلل إليهم الغاز اللئيم ويقتلهم؟.
وعلى الرغم من أن استخدام السلاح المحظور دولياً ضد العسكريين يعد «جريمة حرب» فقد استخدمه النظام القاتل وحلفاؤه ضد المدنيين وعلى نطاق واسع، فكيف سيحكم العالم للمجرم بالانتصار وللضحية بالهزيمة؟.
صحيح أن المعركة العسكرية فرضت على الشعب السوري فرضاً، لكن الأصح من ذلك أننا لا نقبل أن تفرض نتائجها على السوريين. لأن هذا يعني أن منطق «حق القوة» هو الذي يحكم المجتمعات البشرية، بدلاً من منطق «قوة الحق» فتتحول المجموعة البشرية بذلك إلى غابة يسكنها الوحوش، وليست مجتمعات إنسانية معيارها الأساسي «حقوق الإنسان».
صحيح أننا ندعم «معركة التحرير الشعبية» الدفاعية في أصلها، لكونها مواجه بين «الحق والباطل»، لكن الأصح من ذلك هو رفضنا أن تتحول «موازين القوى» على الأرض لصالح النظام إلى أوراق قوة سياسية لمصلحة القاتل، وذلك عندما تحضر «نزالات السياسة». فكلما تقدم القاتل على الأرض ازداد قوة بالمنظور العسكري، لكنه يزداد ضعفاً بالمنظور الحقوقي، لأنه لا يمكن أن يتقدم شبراً على الأرض إلا بارتكاب مزيد من الجرائم، التي ينبغي أن تتحول إلى أوراق ضعف في ملفه الحقوقي، الذي يزداد تضخماً، إلى درجة لا يطيقها الضمير الحي، إلا إذا تفسخّت الضمائر وشيعت إلى مثواها الأخير. وليس للجرائم- بالمعيار الحقوقي- إلا اسم واحد حتى لو سميت في مكان آخر انتصاراً أو عيداً وطنياً.
إن الشعب السوري الحر لم يدخل مع العالم الظالم في رهان على النصر العسكري، ولم يدّع يوماً بأنه قادر على هزيمة الآلة الهمجية الروسية، وجحافل الشر الإيرانية، وفرق الموت الأسدية، لكن شعب سورية الصابر راهن ولايزال يراهن على حقوقه المشروعة غير القابلة للتنازل ولا المساومة ولا التجزئة.
إن زيادة القمع تعني- بالضرورة- مزيداً من التأكيد على حقوق الشعب السوري، وزيادة البطش تعني برهاناً أكيداً على إدانة الظالم وبراءة المظلوم، ومن التبست عليه الأمور في بداية انطلاق الثورة السورية فلا ينبغي أن تبقى ملتبسة بعد كل هذا الكم الهائل من الظلم الواقع على الشعب السوري. ولئن كان للشعب السوري مبرر واحد أو اثنان أو عشرة مبررات لإطلاق ثورته فهو اليوم يمتلك آلاف المبررات لإكمال ثورته.
وإن العالم الذي أدان النظام على جرائمه في بواكير الثورة من العار عليه أن يسحب إدانته، ويمنحه شرعية لا يستحقها، بعد أن تضاعفت جرائمه مليون ضعف عما كانت عليه يوم أدانوه أول مرة، ومن العار كذلك إعادة تنصيبه من جديد على شعب تعمّقت جراحه واتسعت قراحه.
حين نسلّم للنظام القاتل وحلفائه والمجموعة الدولية بأن صراعنا مع العدو النظام القاتل هو صراع عسكري فسوف ننهمك بمطالبة «أصدقاء الشعب السوري» بتزويد الثوار بالسلاح لمواجهة قوات النظام وداعميه، وقد يأتي الرد من الأصدقاء بأن تسليح الثوار ليست مسؤوليتنا، ولسنا نحن الذين أطلقنا مشروعكم الثوري!. لكننا حين ندير قضيتنا على أساس حقوقي فسوف نطالب المجتمع الدولي بحماية المدنيين العزل من أهوال الحرب المدمرة، ولن يقول لنا أحد-عندئذ-: احموا أنفسكم لأن حماية المدنيين هي في صلب المسؤوليات الدولية.
ولئن كانت العسكرة هي أبرز ملامح المشهد السوري، فهذا لا يعني أن معركتنا مع النظام معركة عسكرية في التأصيل الدقيق للقضية، ولا يصح تجاهل أن قضية الشعب السوري هي قضية حقوقية بامتياز، ففي المواجهات العسكرية تحضر احتمالات الربح والخسارة، وخسارة الضعيف هي الاحتمال الأكبر، لا سيما وأن النظام عمد إلى استقدام جيوش الغزاة وجحافل البغاة من كل مكان مظلم، وبالمقابل فإن المواجهات الحقوقية ستفضي إلى نصر محتّم لأصحاب الحق وهزيمة مؤكدة للمجرمين، والثورة لم تنطلق من أجل الخسارة ولا الفشل، فزمن الهزائم قد مضى، وعهد الإخفاق والفشل ولّى وانقضى.
■ في الاتجاه السياسي:
عمل المجتمع الدولي متمثلاً- هنا- بمنظمة الأمم المتحدة ومجموعة «أصدقاء سورية» وكذلك روسيا على الضفة الأخرى على صرف الثورة السورية عن جوهرها الأصلي وحرفها عن مسارها الحقيقي الحقوقي، وإشغالها بفواصل سياسية بين الفينة والأخرى، ما بين «سلسلة جنيفات» و«سلسلة أستانات» وسلال هنا وسلال هناك، وصولاً إلى مصطلحات جديدة في عالم السياسة كمصطلح «خفض التصعيد» ومصطلح «الّلاورقة» لم يسمع بها العالم إلا حين طالب الشعب السوري بحقوقه!.     
فمعركة الشعب السوري مع النظام القاتل وداعميه ليست معركة سياسية تنتهي بتقاسم السلطة «مناصفة أو مثالثة أو مرابعة»... فلم يطلق السوريون ثورة الحرية من أجل الحصول على تجازيء المناصب وتراقيع المراكز.
ومن هنا فإن الكثير من النخب السورية الثائرة وقعوا في فخ مصطلح «المعارضة» كبديل عن مسمى «الثورة»، حيث تدل الكلمة الأولى على أن الأزمة في سورية هي أزمة مناصبية وأنها سجال بين الحكومة الشرعية وبين معارضة تجتهد في نزع الشرعية عنها أو تتقاسم السلطة معها، بينما تدل الثانية على عملية تغيير جذري في بنية النظام المستبد ومنظومته الأمنية، وذلك أقرب لتلبية حقوق الشعب السوري بالحرية والكرامة واختيار من يحكمه.
صحيح أنه من الواقعية السياسية أن تتعاطى قوى الثورة السورية مع استحقاقات «الحل السياسي» المعروض عليها في «دكاكين السياسة»، لكن الأصح من ذلك هو خوض معركة الحقوق في أمكنة أخرى ربما بعيداً عن «مجلس الأمن» الأمن المغلق بـ«الفيتو الروسي». وبعيداً عن مواعيد جنيف وأستانه وسوتشي.
فالواجب يقضي بخوض «معركة الحقوق» في فتحات مفيدة موجودة في جدار العالم الظالم، بالتواصل المستمر مع «منظمات حقوق الإنسان» و«منظمات المجتمع المدني» و«عمومية الأمم المتحدة» والعمل على كسب «معركة الرأي العام» الشعبوي والنخبوي، ووضع قضية الشعب السوري في صدارة الاهتمام العالمي، ووضعها في «عهدة الشعوب» لأن قضيتنا هي قضية شعب والشعوب أكثر أمانة وأمناً على حقوق الشعوب المكلومة.
معركتنا- إذاً- مع النظام وحلفائه هي «معركة حقوقية» والحق لا يموت ولا يسقط بالتقادم، وما على الأحرار سوى خوض غمارها بجدية واقتدار، حتى يتمكن الشعب الثائر من نيل حقوقه بالحرية والكرامة وتقرير شؤونه ومستقبله.
هي «معركة حقوقية» بكل المقاييس، تجلّى فيها حق الشعب السوري واضحاً لا غبار عليه، وظهر بالمقابل ظلم النظام بارزاً على مرأى العالم بأسره.
فقد نخسر المعركة العسكرية لأننا لم نعد العالم ولن نعده بقهر أمواج بشرية عاتية، جاءتنا من ظلام التاريخ، وظلمات الجغرافيا، معتدّة بعتاد حربي محرم دولياً وغير محدود، يستهدف المدنيين العزل، ولا ندعي القدرة على هزيمة امبراطوريات متوحشة قائمة على مبدأ القتل والتدمير ولا شيء غير ذلك.
لو سلّم الشعب السوري بنتائج المعركة العسكرية فلن يتحصل على شيء من حقوقه، بل سيفقد المزيد منها، ولو سلّم الشعب السوري بالحلول السياسية «الديمستورية» أو «البدرسونية» مثلاً فقد ينال جزءاً يسيراً من حقوقه التي سرعان ما يعود ليفقدها في أول جولة «حيونة» من الديكتاتور المعاد تصنيعه.
إذا أكمل النظام وحلفاؤه السيطرة على كامل الجغرافيا السورية وأطبقوا على كل الشعب السوري فسوف يعتبر أرباب المعايير العسكرية والسياسية ذلك انتصاراً مؤزراً، لكن الحقوقيين سيعتبرونها جريمة اكتملت أركانها، وثبتت أدلتها ويجب محاسبة مرتكبيها، وتمكين الشعب السوري من نيل حقوقه في الحرية والكرامة.
إن إدارة القضية على أساس حقوقي تعني إعادة تعريف النصر والهزيمة، فمن انتصر بعد ارتكابه كل أنواع الجرائم من قتل وتهجير وتدمير يسمى مجرماً ولا يسمى منتصراً.. ومن أطلق ثورة الكرامة مطالباً بحقه الطبيعي والمشروع ثم دافع عنه فلا يسمى مهزوماً، حين تسيطر قوى الجريمة والعدوان على داره وقراره.
كما يستوجب إعادة تعريف الثورة السورية باعتبارها ثورة شعب اعتمد نهج التظاهر السلمي، ثم أفرز فصائل «الجيش الحر» ممن يتبنون أهداف الثورة وثوابتها، وبالتالي لا تتحمل الثورة أية مسؤولية عن سفك الدماء، وتدمير البلاد وتهجير الناس، كما لا تتحمل تجاوزات الفصائل التي لا تقر بمبادئ الثورة وأهدافها، بل تناصبها الغدر والعداء. 
الكاتب السياسي: عبد الناصر حسين. 





      

ليست هناك تعليقات