آخــــــر مــا حــــــرر

لغة العصر





لقد كانت الثورة السورية المباركة فرصة «ذهبية» وربما »ماسية» لنخبنا خاصة وشعبنا عامة للتعافي من مرض «الفرازيولوجيا» الذي أنتجته سخافات القومجية والبعثية والستالينية والاخونجية وباقي الصرعات والظواهر التي هبت على المنطقة من حقب تاريخية غابرة كانت تستند على شعارات براقة ونظريات ساذجة تطمح في حكم العالم وتوحيده وصهره في بوتقة واحدة.....دولة الخلافة.... دولة العمال.... امة عربية واحدة.
الى آخر تلك المشاريع الطوباوية التي لاترتكز على الواقع العملي المتحرك والمتحول والمتلون والباحث عن آفاق جديدة واللاهث خلف عناوين متعددة تناسب تطلعاته وطموحاته المتقلبة في كل زمان ومكان.
كما ان «الثورة السورية» كانت فرصة نادرة في هذا التوقيت الذي يعيشه العالم في ظل أحادية قطبية سائدة للنخب السورية المهجرة مسبقا والمهجرة لاحقا للتجمع والاجتماع لابتكار لغة ديناميكية متطورة تحاكي كل الاطراف وتتماهى مع كل المحاور وتستطيع تهدئة كل المخاوف وتبث في كل مسرح العمليات الاقليمي والدولي كل التطمينات الواجب توفرها لاستجلاب الاصدقاء وربما لانتزاعهم من معسكر الاعداء.
لكن شبق اللهاث خلف الكرسي والمنصب ومنطق الثأر والتفكير الضيق والانانية الحزبية وانعدام الافق وضحالة التفكير الذي كان يجب ان يكون استراتيجيا فكان تكتيكيا وفي احايين كثيرة كان آنيا ولحظيا كل ذلك واكثر منه يعز علينا ذكره هنا لضيق المساحة دفع بغالبية النخب المتحكمة اساسا وربما بتوظيف وغض بصر خارجي لتصنيع خطاب محلي حزبي استهلاكي يعكس جوهر التنظيم الحزبي او الجماعة او التكتل ويعبر عن رؤية ضيقة مدجنة سلفا تتحدث لغة ممولها وطاعمها وكاسيها وتستخدم الثورة منصة لتحقيق اهدافها وتستثمر تضحيات الثورة قرابين على مذبح غاياتها الفردية والأيديولوجية المتناهية في الضيق افقا وواقعا ومآلا.
وسنكون في قمة الانصاف عندما نقول: ان جماعة الاخوان ضربوا أكثر الامثلة واشدها وضوحا في تشكيلة النخب السورية التي سنفترض انها ممزقة وموزعة اصلا ضمن تيارات واطر تنظيمية وهي ليست كذلك في الواقع لاسباب كثيرة يعلمها القاصي والداني.
فلقد انتهجت الجماعة خطابا أيديولوجيا دينيا مغرقا في الغيبية ومشبعا بالأخونة التي تضع البيض كله في سلة واحدة وتقسم العالم الى فسطاطين واحد للمؤمنين ومن شايعهم ومن المذهل ان هذا الفسطاط وحسب التوجيه الاخواني الارشادي للمجتمع السوري (القاصر) ربما يضم بعض الد اعداء الثورة وهذا طبيعي فخطاب الاخوان لايأتيه الباطل من جهاته الثماني.. وفسطاط للكفار الصليبيين الذين يجتمعون على قلب رجل واحد وينصهرون ببعضهم كسبيكة واحدة متحدة.
ومن فسطاط المؤمنين تنبعث أبخرة الشعارات التي يعبق بها الجو الاعلامي تلك الشعارات التي تضج بالتكفير والتخوين والصليبية الحاقدة وملة الكفر واحدة الخخخخ...
ولايخفى على كل ذي بصيرة ان ذلك النهج الشعاراتي الفارغ المكلف التدبيج والتزيين كان هدفه الاوحد واليتيم استلاب العقول والأذهان تمهيدا للسيطرة عليها والتحكم بها وبالتالي توسيع رقعة السيطرة ( الحزبية / المؤدلجة) على (الحاضنة / الشارع) للثورة ليسهل توجيهها فيما بعد واستخدامها كورقة / أداة لترتيب أولويات الجهة المسيطرة / المتنفذة.
وإن تلك المنهجية البائسة وإن نجحت في كثير من الاوقات وفي اغلب مراحل الثورة فلن يطول بها المقام وتدوم لها الحال لان تلك الجهات غفلت ان الثورة اساسا بركان يغلي ويثور وإن خمد في لحظة ما فإنه سينفجر في لحظة أخرى وربما أشد عنفا واكثر تدفقا.
وعليه نقول:
على كل النخب السورية ان تباشر وفورا لتصفير عدادت التفكير لديها وتبدأ بتخليق لغة عصرية فذة تعكس عبقرية هذا الشعب وتفصح عن عظيم تضحياته وجسيم تقدماته وثباته على مواقفه رغم الصعاب التي نهضت واستنهضت في زحفه المقدس صوب الحرية.
لغة حبلى بمفردات جديدة جدا تشع براجماتية وواقعية ونفاذ الى عمق الواقع الجيوبولوتيكي المتحرك والمتحول بسرعة تفوق ربما سرعة الصوت...ولنا في تجارب الشعوب الاخرى التي سبقتنا خير زاد ومعين.. ولقد وصلت الثورة السورية المباركة لمراحل مفصلية وحرجة وربما ختامية وآن الآوان ان نتهيأ لاستقبال القادم من التحديات ونحن مدججون بعقلية متنورة ومنفتحة بوعي سياسي حديث قادر على استيعاب حركة التاريخ وسيرورته الحتمية وتطليق الماضي بكل علاته وأمراضه طلاقا بائنا.
فلولا تضحيات شعبنا الذي لم يبخل بارواء شجرة الحرية بشلالات من الدماء وجبال من الاشلاء وموجات من القديسين يقاسون ألوان العذاب في زنازين الموت ونفر قليل من المؤمنين بعدالة قضيتنا وقداسة وجودها لما قيض لثورتنا طول بقاء.
الكاتب والباحث السوري: هشام علي المصري


ليست هناك تعليقات